الأحد، 1 أبريل 2012

الى مدني صالح الخالد





( الأصعب ليس أن يموت المرء ، بل أن يموت الذين حوله ، كلهم ، ويبقى هو حيا ) ؟! .                              تولستوي



د- عامر عبد زيد([1])

تصدير
يصف بورخس حال أفلاطون وهو يكتب المحاورات واصفا حال  أستاذه سقراط :" لم يكن يعرف الصفحة الأخيرة وهو يكتب الصفحة الأولى كان يترك ذكاءه يهيم شاردا ...يخيل إلي أن هدفه الأساسي كان الوهم بأن سقراط مازال يرافقه على الرغم من أن سقراط ...([2])يراودني إحساس أن أقتفي اثر بورخس وهو يقتفي اثر أفلاطون في تخيله أساتذته  وكأنهم أطياف حاضرة تحيط به .أتخيل بأن مدني صالح يرافقني كطيف يحيط بي لكن من  المؤلم والمحزن أن يدرك المرء ، بعد فوات الأوان أنه : (ليس بإمكانه أن ينهل من النبع مرتين)([3]) فحين يغيض النبع ـ مرة وإلى الأبد ـ دون أن نغرف منه ؛ لا تتكشف الأسئلة الحارقة عن غياب سهولة الارتواء من النبع ؛ بل عن غياب الجدوى التي تضمر فقراً مخيفا ً ، وذهولا عن الانتباه لعابر هائل مر بنا وكما يقول النفري: ( كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة ) لقد اتسعت الرؤية لدية ربما تكون حاصرته تلك  التأويلات ، في هذه العوالم الخرساء ، وزمان النكوص ( لكم تخذل المرء سيماؤه ، ولكم يجهل الناس ما يعرفون ، وهل أنت ، إلا الذي جهلوه ؟!)([4]) إلا انه بقى بكل عفته التي جعلته غريب في عالم يجهله وسلطة تتجاهله وحصار دفعه (أواخر أيام شيخوخته، إلى بيع بيته وأثاثه وسيارته وكتبه، لتـوفير لقمة الخبز لعائلته، ولكي يتجنب مذلة السؤال أو الوقوف مستجدياً في أبواب الحكام، فظل شامخاً زاهداً طاهراً!)([5]) وهنا كان جلال الدين الرومي ( إن هذه الأرض ، وتلك السماء ، مزقتا قلبي بضيقهما ، فلا تفضح أمرنا أيها السراج ) يصف حالة وحال كل النوابت اللامنتمون والرومي مثالهم هذا الضيق الذي جعله يغادرنا يغادر هذه الدنيا الفانية،بعد مكابدة طويلة، وحياة صعبة ، وبعد معاناة مع المرض، وبعد مرارة الشعور بالإهمال وقلة الوفاء، فضلاً عن بشاعة الموت، وسط غياب العقل والمنطق، واغتيال الحقيقة والحق، في زمن اللامعقول.الذي تصفه تلك الصورة الشعرية البارزة ل "محمد الماغوط ": ( كل شيء في هذا العالم حزين ، رغم الممثلين الكوميديين ) الحزن كوميديا سوداء إلا إن الكشف الصوفي نجده في قول تولستوي: ( الأصعب ليس أن يموت المرء ، بل أن يموت الذين حوله ، كلهم ، ويبقى هو حيا ) ؟! .  وأيضا للموت حسنات ليس قليلة يظهر بمقتضاها الموت ربما أفضل اختراع فردي للحياة، لأنه يجعلك تستبعد الوقوع في فخ التفكير بان شيئا ما يمكن أن تخسره. لقد اتجه إلية كما تصوره من درسهم  يتجلى بهيئة مالك الحزين،مكسور الجناح! بسترة من قماش القطيفة الخضراء، وسروال بني اللون وقميص بدون ربطة عنق، ويتمايل في مشيته . تلك الخطوات التي كانت تجسد بداياتها في لحظة الولادة : كانت يوم ولد وترعرع في هيت المدينة في عام 1932  التي ولد فيها ولم يغادرها حتى مطلع شبابه ، ما جعلها تحول في الذاكرة الى صور متخيله ، وقد كانت في تلك الأيام البعيدة تعيش زمنها الجميل بيوت بسيطة حانية تتوسطها مئذنة عتيقة مائلة على النهر، في أرض يتحول فيها التراب والحجارة إلى خلايا حساسة ناطقة، وفي زمن باكورة العهد الجديد للدولة العراقية الحديثة وقيمها الجديدة الصاعدة ولد وتفتح هذا الشاب الخجول المنطوي على نفسه، والمتطلع للدنيا بانبهار وشغف من يحمل بين جوانحه حلماً أكبر من أفق البلدة وأبعد مما ترى عيناه. كانت المدرسة الابتدائية أعلى سقف للدراسة في هيت التي تبعد عن بغداد غرباً قرابة المائتي كيلو متر. ([6])


[1] استاذ الفلسفة في جامعة الكوفة .
[2] بورخس ، خورخي لويس :صناعة الشعر ست محاضرات ، ترجمة صالح علماني ، دار المدى ، ط1، دمشق ، 2007، ص20.
[3] المصدر نفسه ،ص37 ، هامش 17.انظر :هيرقليطس ، الشذرة الحادية والأربعون. .
[4] رباح آل جعفر،مدني صالح آخر فيلسوف إغريقي معاصر ، بواسطة موقع : دنيا الوطن دنيا الرأي .
[5] محمد فلحي، هذا هو مدني صالح: الفيلسوف الذي طالب بحقوق الحمير فأثار استياء السلطة!!، بواسطة "مركز النور.
[6] إبراهيم أحمد، مدني صالح .. أرهقته الفلسفة وتداوى بالشعر، بواسطة جريدة الشرق الأوسط الأربعاء 08 شعبـان 1428 هـ 22 أغسطس 2007 العدد 10494.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق