الخميس، 12 أبريل 2012

"الفكر المحافظ" في امريكا


وقد استخدم مصطلح "الفكر المحافظ" للتعبير عن أيديولوجية سياسية مميزة في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. وقد ظهرت هذه الفكرة نتيجة للتغير السريع في الاقتصاد والسياسة الذي تزامن مع الثورة الفرنسية عام 1789، والتي أثارت ردود أفعال لدى العديد من القوى الفكرية والاجتماعية التي وجدت في هذا التحول السريع تهديداً للاستقرار السياسي والنظام الثقافي الأوربي ولعل كتاب (أدموند بيرك)(1) "تأملات في للنظام القديم"، في القرن الثامن عشر، هو مرجع للكثير من الأفكار تيار المحافظة 1،(ادمون بيرك:ولد عام 1729 في دبلن وغادرها الى لندن 1750 واهتم بالدراسات القانونية والسياسية ،أهم أعمال بيرك كتابه المناهض للثورة الفرنسية (تأملات في الثورة الفرنسية) والذي هجما به الثورة الفرنسية توفي في عام 1797.)

أما أول من استخدم مصطلح (المحافظون الجدد) فهو ((ايرفينغ كريستوفر)) حيث استخدام تشبيهاً مجازياً حينما عرف المحافظ بـ(الليبرالي الذي وقع ضحية الواقع) فتقدم بشكوى الى البوليس ، في حين الليبرالي هو الذي وقع ضحية اعتداء من الواقع ورفض ان يتقدم بشكوى الى البوليس و كريستوفر يعتبر الأب المؤسس لهذا التيار في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نشر مقالة بعنوان (المحافظون الجدد:قصة الأفكار)، استخدم فيها هذا المصطلح لتمييز آرائه عن آراء المحافظين التقليديين ، ولكريستوفر كذلك كتاب بعنوان (انعكاسات المحافظين الجدد ) ألّفه في عام 1983 تناول فيه آراء وأفكار المحافظين الجدد وانعكاساتها في السياسة الأمريكية .

والمحافظون الجدد هم اليوم الصورة الأخرى للمحافظين التقليديين في الولايات المتحدة الأمريكية، فإذا كان تيار التقليديين قد ظهر منذ زمن في الولايات المتحدة ورسم الكثير من السياسات في الولايات المتحدة الأمريكية وكان يطلق عليه (تيار ولسن) نسبة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق (ودرو ويلسون) الذي يؤمن بأن (القيم الديمقراطية ) تحتاج إلى قوة قادرة على فرضها ونشرها ، والضرب بقوة على يد من يقف ضدها في أي مكان من العالم، باعتبار ان أمريكا لا يمكن ان تعيش آمنة وديمقراطية ومتمتعة بالرخاء الاقتصادي ، الا اذا كان العالم آمناً وديمقراطياً ، فان هذا التيار تعزز بقوة في عهد الرئيس الجمهوري الأسبق( رونالد ريغان) ، وقد برزت في عهده ملامح توجهات المحافظة الجديدة، مثل : تفضيل اللجوء الى القوة، والمثابرة على ذلك لتحقيق الأهداف الكبرى، عقائدية كانت أو سياسية أو اقتصادية ، وقد ترجم ذلك بالفعل في سلوكه متخذاً منحى استراتيجياً متصلباً تجاه الاتحاد السوفيتي السابق، من خلال ما عرف ببرنامج (حرب النجوم) الذي اجبر الاتحاد السوفيتي في النهاية على الركوع والتسليم بالهزيمة أمام الولايات المتحدة الأمريكية، وانتهت بذلك الحرب الباردة نهاية نصر بلا حرب .

الفارق الأساسي بين المحافظين الجدد والمحافظين الجمهوريين التقليديين يكمن في:
1.        ان المحافظين التقليديين يتمسكون بفكرة تقليل الانغماس الأمريكي في الشؤون العالمية ، والتخلي عن طموحات الهيمنة على العالم، لدرجة ان بعضهم اقترح ان تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية من حلف الناتو، وتستعيض عنه في حماية أمنها بمشروع الدرع الصاروخي .
2.         بينما يتميز المحافظون الجدد بالنزوع الى الانهماك في السياسات الخارجية ، ويميلون الى عدم التقييد بقيود السلطة التشريعية ممثلة في مجلسي النواب والشيوخ
3.         كذلك هنالك اختلافات أخرى بين الطرفين في مسائل على الصعيد الداخلي الأمريكي وبالأخص ما يتعلق بموضوع تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي ، ومسألة الحقوق المدنية والهجرة وغيرها
من هم؟:
والمحافظون الجدد يشكلون اليوم في الولايات المتحدة مجموعة مؤثرة في رسم السياسية الأمريكية،

1. على المستوى الرسمي:مثل نائب وزير الدفاع السابق (ولفويتز) والذي أصبح الآن رئيس البنك الدولي ، و(دوغلاس فايث) وكيل الوزارة للشؤون السياسية، ومن المنتمين لتيار المحافظين الجدد(جون بولتون) الذي يشغل منصب سفير الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة، وريشيرد بيلر، وديفيد ، وليم كريتسول ابن ايرفينغ كريستول، وزلماي خليل زادا سفير الولايات المتحدة في العراق وآخرون .
2. على المستوى الفكري والمؤسساتي:هذا بالإضافة الى عدد كبير من صناع الفكر والإعلام والمجلات المتخصصة ومراكز الأبحاث التي تسهم في تقديم الاستشارات السياسية ورسم السياسات والاستراتيجية العليا للولايات المتحدة الأمريكية منها(معهد أمريكا انترابرايز) ومعهد هيرتج، ومنتدى الشرق الأوسط - مؤسسة برادلي - مركز سياسة الأمن - مكتب المهمات الخاصة - مجلس سياسة الدفاع، مشروع القرن الأمريكي الجديد، مجلة المصالح القومية، مجلة تعليق ، ومجلة السياسة ........ الخ .
المرجعية الفلسفية للمحافظين الجدد:
لا بد لكل حركة سياسية من مرجعية فكرية أو فلسفية ترسم الأطر العامة لحركتها، والمحافظون الجدد لهم منظومة فلسفية ترسم الأطر العامة لحركتهم في المجال السياسي.
ويرجع المحافظون الجدد في أفكارهم الى المفكر الأمريكي - ألألماني الأصل (ليو شتراوس) المولود في عام 1899 في مقاطعة هيس الألمانية ، والذي غادر ألمانيا الى بريطانيا مع وصول هتلر للسلطة ، ثم غادر بريطانيا إلى فرنسا، التي غادرها في عام 1938 الى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أقام في نيويورك ، ودرس في معهد للبحوث الاجتماعية بها، ثم استقر في مدينة شيكاغو ، ودرس في جامعتها من 1949-1967 وأسس هناك (رابطة الفكر الاجتماعي). ولشتراوس خمسة عشر كتاب منها (ما هي الفلسفة السياسية، الحقوق الطبيعية والتاريخ، الليبرالية القديمة والحديثة، دراسات في الفلسفة السياسية لأفلاطون). بدا شتراوس نشاطه بمائة من طلبة الدكتوراه الذين تتلمذوا على يده ثم حملوا فلسفته، وقد أصبحت هذه الرابطة فيما بعد نواة لمذهب فكري يعرف بـ(الشتراوسية)، ويقوم على خدمته ونشره سبعة وسبعين من تلامذته. كذلك وجدت هذه الأفكار لها صدى عند مجموعة من اليساريين والليبراليين المنشقين على الحزب الديمقراطي. من أمثال (ايرفينغ كريستول) أو (نورمان بودرهورتز - وميج ديكتر - وناثان كلزير، دانيل بيل ، جيمس ويلسون ،سيمور مارتن ليبسيت ) وغيرهم .
ويركز مذهب شتراوس على نقطتين :-
الأولى: إن الديمقراطية لا تستطيع فرض نفسها إذا بقيت ضعيفة وعاجزة عن مواجهة الطغيان، وان النزعة النسبية الأخلاقية تفسد كل شي وتسمح بالانزلاق الى الفاشية والشيوعية ومن خلال تجربته في (جمهورية فايمار)(2) 1923 رفض الأنموذج الديمقراطي الليبرالي الذي كان قائماً فيها ورأى بان هذه الجمهورية في مجملها عبارة عن عدالة من دون قوة أو عدالة عاجزة عن اللجوء للقوة، إذا لابد للديمقراطية من أنياب ومخالب.
ثانياً: يرى شتراوس أن الديمقراطية تمثل الفضيلة وبالتالي أي فكر رافض لها يعد رفضاً للديمقراطية – مثل الفكر الشيوعي - وعلى ضوء ذلك تقسم الأنظمة الى قسمين جيدة وسيئة ، وهذا ما تولد عنه مصطلح (محور الشر) المناهض للتوجه الديمقراطي في مقابل – محور الخير - الذي يمثله الفكر الغربي الديمقراطي. ورأى شتراوس أن من حق أنظمة الحكم الصالحة ، بل من واجبها أن توجه (الأنظمة السيئة) وكان شتراوس معجب كثيراً بالإمبراطورية البريطانية كنظام ، كونها فرضت هيمنتها بالقوة والضم والسيطرة وكان معجب بشخصية الزعيم البريطاني (ونستنون تشرشل) باعتباره زعيماً يمثل رجل الدولة وذي الإرادة الصلبة .
أما أهم الأفكار التي تشكل فلسفة المحافظين الجدد :-
1- رفض الحداثة وتفضيل المنطق على التقليد :
إن الشتراوسيين يعتقدون بفلسفة ما قبل الحداثة، فهم ضمن التيار الذي يؤمن بفلسفة ما قبل الحداثة وفي الوقت نفسه هم بالضد من فلسفة الحداثة، ولكن موقفهم هذا من الحداثة ليس باسم الدين (كما في العديد من أشكال الأصولية الدينية في أنحاء العالم) أو باسم التقليد (مثل المحافظين منذ ادموند بيرك -1729-1797) ولكن باسم المنطق، وباسم الفلسفة ، ففهمهم للمنطق والفلسفة مختلف عن ذلك في عصر التنوير ، أن لذلك تأثيرين ، الأول: إن هذه الطريقة في التفكير هي ابتعاد عن المحافظة السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية والتي لها تأثير واضح في المجتمع الأمريكي، بينما، على العكس، يعتبر الشتراوسيون المنطق هو الشكل الصحيح الوحيد للتفكير، ويحتقرون الفكر الإمبريالي، وبشكل أقل التقليد. والثاني: أن ذلك يضع الشتراوسيين في مواجهة مباشرة مع فلاسفة ما بعد الحداثة ، الذين يعتقدون أن فلاسفة ما قبل الحداثة قد عفا عليهم الزمن، وإنهم ليسوا بذي أهمية ، ولذلك فإن الشتراوسيين يعتمدون كثيراً على فلاسفة من أمثال بلاتو ، هوبز، ولوك ...
2- الفلاسفة هم الحكام الطبيعيون للمجتمع.
إن تعاليم شتراوس تركز كثيراً، على طبع المجتمع بالأفكار الفلسفية، في الجوهر، يمكن فقط وصف تعاليمه بأنها فلسفة سياسية، حيث القوة هي ضرورية لتطبيق الأفكار على المجتمع كما شدد شتراوس على الحاجة إلى إعادة فهم الأفكار الفلسفية للفلاسفة الكلاسيكيين ، ففي رأيه، لم يكن فلاسفة ما قبل الحداثة قادرين على التعبير عن آرائهم بحرية، خوفاً من الاضطهاد، وعمدوا إلى كتابات كانت تتضمن معاني خفية، لقد اعتقد انه لوحده من لديه القدرة على كشف تلك المعاني أو الحقائق، وتطبيقها في العالم الحديث. لقد كان يكره فلاسفة العصر الحديث الذين اتهمهم بفتح أبواب المعرفة للناس العاديين، وبذلك يكونون قد قللوا من منصب الفلاسفة، بل وأسهموا كذلك في عملهم هذا في تشويش عقول الناس وتحميلهم هموم ليسوا قادرين على حملها، وبالتالي فهو مضر بالمصلحة العامة، فعندما خرج سقراط عن ذلك التقليد ، وراح يناقش عامة الناس ويحاورهم ، فقد اعتبره شتراوس مذنباً، والتهمة التي وجهت إليه صحيحة ، وعقاب الموت الذي حل به كان عقاباً عادلاً. ويدعي شتراوس انه تمكن من قراءة الفلاسفة الكبار الذين يشكلون الإرث الفكري للحضارة الغربية، وإن تلك القراءة أكدت له أن الفلاسفة العظام يعتقدون انه لا يوجد آلهة لمعاقبة الخاطئين، وليس هنالك نظام أخلاقي يحدد ما هو خير وما هو شر، ولا يوجد حق طبيعي غير حق تحكم القوي في الضعيف ، وأن الحقيقة الوحيدة في العالم هي عدم وجود حقيقة، وأن هذا الأسلوب أدى إلى الخروج عن تقاليد استمرت مئات السنين وقد اضر بالحضارة الغربية ، إنه خلق في رحم الحداثة ميلاً نحو الفوضى والعدمية . وهو يرى أن الاستمرار في أسلوب الحداثة الليبرالية ، الذي يلتزم به جزء كبير من المثقفين الأمريكيين والدولة الأمريكية سيقود إلى إضعاف المجتمع الأمريكي والدولة الأمريكية . ولهذا ، فإن واجب النخبة الأمريكية أن تتوقف عن ممارسة الأسلوب الليبرالي في النقاش والحوار، بل عليها العودة إلى أسلوب الفلاسفة التقليدين في حجب الحقيقة عن عامة الناس وتزويدهم فقط بما يحتاجون إليه في حياتهم العملية، وبهذا فإن أتباع شتراوس، اعتقدوا بان المبادئ العالمية بشأن الحق موجودة ويمكن الوصول إليها ومعرفتها من خلال دراسة الفلاسفة الذين يؤمنون بهذه المبدأ ، وبالأخص أفلاطون وأرسطو، لذلك فهم رفضوا التوجه الحديث لتفسير الفلاسفة القدماء في سياق العصر الذي يعيشون فيه وهذا ما دفعهم الى اكتشاف معانٍ ، أو حقائق جديدة، والعمل على احتكارها ، لذلك أصبح لديهم نهم شديد للسلطة، حتى يستطيعون تطبيق نسختهم هم للحقيقة في المجتمع.
3-الكذب والخداع ضرورة للمحافظة على السلطة.
اعتقد شتراوس أن البعض قادرون على القيادة ، بينما الآخرون يجب أن يُقادوا. ولكن على خلاف المفكر( بلاتو)، الذي اعتقد أن القادة يجب أن يكونوا أشخاصاً ذوي مقاييس أخلاقية عالية، حتى يستطيعوا أن يقاوموا إغراءات السلطة، فان شتراوس كان يعتقد، أن أولئك الذين يصلحون للقيادة هم الذين يعلمون انه ليس هنالك أخلاقيات، وإنما هناك فقط، حق طبيعي واحد، حق القوي أن يحكم الضعيف، بعبارة أخرى، فإن ذلك يتطلب خداعاً مستمراً من قبل الحكام، من أجل رعاياهم. في هذا النوع من المجتمع، يتم إعلام الجموع بما يجب أن يعملوا، وليس ما هي الحقيقة. إن فهم الحقيقة هو مسؤولية النخبة الحاكمة، ويعلق (مايكل لادين)، وهو محافظ جديد مشهور، حول الحاجة إلى الكذب ، قائلاً: (من اجل ان ننجز أنبل الإنجازات، يمكن أن يجبر القائد على القيام بعمل شرير) وفي نفس السياق يعلق (وليم بفاف) بأن عقيدة المحافظين الجدد تقوم على الكذب حيث من الضروري إخبار الناس الأكاذيب حول طبيعة الواقع السياسي.. وتبقي النخبة الحقيقة لنفسها ، وهذا يمنح النخبة تبصراً وقوة لا تتوافر للآخرين ، وفي الدراسة التي قدمتها الأكاديمية الأمريكية حول علاقة تيار المحافظين الجدد بالفلسفة الشتراوسية ، رأت أن تلك الفلسفة هي الأساس الفكري لعملية الخداع التي يمارسها المحافظون الجدد بالنسبة لموضوعي الدين والقومية .
4-استخدام الدين للسيطرة على الجموع.
يختلف موقف المحافظين من الدين عن موقف الاتجاهات السياسية الأخرى التي تركز على الدور الاجتماعي للدين ، فهو ليس فقط ظاهرة روحانية ولكنه أيضاً الدعامة الأساسية للمجتمعات التي يجب أن تقوم على مجموعة من الأسس والقواعد الأخلاقية التي يوفرها الدين .
والدين، بالنسبة لشتراوس، هو الصمغ الذي يبقي على المجتمع واحداً. والمحافظين الجدد يرفضون فصل الدين عن الدولة ويدعون إلى ضرورة أحياء القيم الدينية في المجتمع الأمريكي .
وحول نفس الموضوع، قال مايكل لادين (إن الموت من أجل بلدك لا يأتي طبيعياً، إن الجيوش الحديثة التي تتشكل من الجماهير، يجب أن تلهم وتشجع ويتم إعدادها بالعقائد. إن الدين أساسي للمشروع العسكري، لان الرجال قد يجازفون بأرواحهم، إذا ما اعتقدوا بأنهم سوف يكافئون بحياة أبدية على خدمة بلدهم)، وأن السبب وراء تأييد المحافظين الجدد للدين هو أن شتراوس اعتقد بأهمية الدين من اجل فرض القانون الأخلاقي على الجماهير، التي بدونه تكون خارجة عن السيطرة. وفي الوقت نفسه، شدد على أن الدين هو فقط للجماهير، وليس على الحكام أن يكونوا ملزمين به. (المجتمع العلماني في نظرهم، هو أسوأ الأشياء الممكنة) لأنه يقود الى الفردية، والليبرالية قد تشجع على المعارضة، وبالتالي سوف يضعف ذلك، وبشكل خطير، قدرة المجتمع على التعامل مع التهديدات الخارجية. ويعمد المحافظون الجدد إلى إضفاء المسحة الدينية العامة على شعاراتهم الفكرية والسياسية ، فهم يتحدثون عن أن الحرية الأمريكية بوصفها(خطة الله للإنسانية) ويصفون أمريكا بأنها ( إمبراطورية الرحمة) ويعتبرون (الويلسنية) – أنها رسالة الأمة الخالدة .
وفي الإطار العملي نجد أن هناك توجه لدى المحافظين الجدد نحو تقوية المؤسسات الدينية في المجتمع الأمريكي ، على أساس أن ذلك يساعد الإنسان العادي على العيش وفق مفاهيم واضحة من الخير والشر ، والحق والباطل ، وبنفس الوقت، فأنهم يرون أن من الضروري التزام النخبة الحاكمة بتلك المفاهيم ، فهي في الحقيقة مفاهيم كاذبة ليس لها أساس حقيقي، ولكنها مفيدة فقط في توجيه عامة الناس لإبعادهم عن الفوضى والعدمية ، ونتيجة لذلك ، نرى أن (ايرفنج كريستول)، يوجه انتقاد الى الآباء المؤسسين الذين صاغوا الدستور الأمريكي لأنهم كرسوا فكرة فصل الدين عن الدولة ، ونتيجة لذلك أيضاً نرى أن المحافظين الجدد يعقدون تحالفاً مع التيار المسيحي الأصولي في الولايات المتحدة ، مع إن أغلبهم من العلمانيين ، وبذلك تكون نظرة المحافظين الجدد للدين عاملاً مهماً ومساعداً في تحقيق ما يصبون إليه، من توظيف الدين خدمةً لأهدافهم السياسية، ولعل تأثيرهم الواضح اليوم في السياسة الأمريكية يمكن تلمسه من خلال الخطاب السياسي للرئيسي الأمريكي جورج دبليو بوش حيث تغلب عليه المسحة الدينية.
5-الوطنية والقومية.
لقد تأثر شتراوس كثيراً بتوماس هوبز. ومثل هوبز، اعتقد شتراوس أن العدائية الأصيلة ، في الطبيعة البشرية، لا يمكن ضبطها إلا عن طريق دولة قوية تقوم على الوطنية، لأن الجنس البشري، بفطرته شرير، إذاً كان لابد من حكمة. وكتب مرة: إن هكذا حكم لا يمكن إقامته إلا حينما يكون الناس متحدين، ولا يمكنهم أن يتحدوا إلا ضد أناس آخرين. ومسلطاً مزيداً من الضوء على الموضوع، كتب ايرفينغ كريستول ، في مقالة بعنوان (قناعة المحافظين الجدد) ، إن الوطنية هي شعور طبيعي وصحي، ويجب أن يشجع من قبل المؤسسات الخاصة والعامة. وبالتحديد نحن أمة من المهاجرين، إن هذا شعور أمريكي قوي وأن كل ذلك يعني أن أميركا بحاجة الى تهديد مستمر، أو عدو دائم، من أجل تسعير أتون المشاعر الوطنية والقومية. في أعين المحافظين الجدد، كان يجب استبدال سقوط، الاتحاد السوفياتي بعدو آخر. ويدخل الولع بالقومية الأمريكية ، في أطار ما يتردد في أوساط المحافظين الجدد بتعابير مختلفة عن فكرة (اللاامريكانية)، التي يراد لها أن ترفع شعاراً رافضاً لكل معارضة لتفرد أمريكا وهيمنتها وسيطرتها .
6-الحرب الدائمة تولد الاستقرار
اعتقد شتراوس أن النظام السياسي يمكن أن يكون مستقراً فقط، إذا ما جوبه بتهديد خارجي. فعلى نهج ميكافيلي، يقول إن لم يكن هناك خطر خارجي، فإنه يجب صنع واحد. في نظر شتراوس، يجب عليك أن تقاتل دائماً لكي تبقى، وهذا بدوره سيؤدي الى ظهور سياسة خارجية مقاتلة .
إن الحرب الدائمة هي ما يؤمن به شتراوس، وليس السلم الدائم. إن الحرب كما يقول (ايليون كوهين) هي أخطر من أن يخطط لها العسكريون ، وإنما هم أداة لتنفيذها . إن هكذا وجهات نظر، من الطبيعي أن تؤدي إلى سياسة خارجية عدائية، وتهديدية، تعتمد الحرب الاستباقية كوسيلة لمواجهة أي خطر تعتقد أنه سوف يظهر في المستقبل، والى سياسة داخلية حيث لا تتهاون مع المعارضة ولا تتسامح معها. إن تلامذة شتراوس المحافظين الجدد، يرون السياسة الخارجية كوسيلة لتحقيق (القدر القومي) كما عرفه سابقاً ايرفينغ كريستول سنة 1983، الذي يتجاوز الحدود الضيقة (أمن قومي قصير النظر) .
إن أي شيء قد يؤدي الى الاستقرار العالمي، من مثل الأمم المتحدة أو الحكومة العالمية، هو أمر مكروه، من قبل أتباع شتراوس. في مقالته (قناعة المحافظين الجدد) كتب ايرفينغ كريستول (إن الحكومة العالمية هي فكرة رهيبة، لأنها قد تؤدي إلى الطغيان العالمي. إن المؤسسات الدولية، التي تشير الى حكومة عالمية في المدى النهائي، يجب أن ينظر أليها بشكلِ عميق) كونها تؤسس لمشاركة دولية في إدارة العالم ، وهذا له انعكاسات سلبية تحد من طموح المحافظين الجدد في تحقيق الانفراد والهيمنة الأمريكية المطلقة على العالم.
إن شتراوس لم يكتب حول الريادة الأمريكية، ولكن تلاميذه قد كتبوا باستفاضة حول هذا الموضوع. فالمحافظان الجديدان، وليم كريستول وربيرت كايغن، قد أعلنا هذا النفير، في مجلة الشؤون الخارجية (فورين افيرز)، في تموز- آب سنة 1996 بعنوان (نحو سياسة خارجية ريغنية جديدة): (الآن، وبما أن الإمبراطورية الشريرة قد هزمت، فانه يجب على أميركا أن تطمح كي تمارس ريادة أميركية خيرة. لأنه لم يحدث سابقاً، أن كان لأميركا فرصة ذهبية ، من أجل الترويج للديمقراطية والأسواق الحرة في الخارج، في الوقت الذي لم يكن وضع الأمريكيين فيه من قبل على أفضل ما يكون عليه الآن) وبذلك فإن الهدف المناسب للولايات المتحدة يجب أن يكون المحافظة على تلك السيادة، قدر المستطاع ، أطول فترة ممكنة في المستقبل. كما أن الكاتبين ،قد قلّلا من شأن أولئك المتشائمين الذين يحذرون من التوسع الإمبريالي، أو خطر استقطاب أعداء، ودعوا بدل ذلك الى زيادة كبيرة في الميزانية العسكرية (للمحافظة على دور أميركا كسند عالمي) كما دعوا الى إجراءات لزيادة حماس الشعب الأمريكي، ربما عن طريق أشكال من الانخراط العسكري، وسياسة خارجية أخلاقية سافرة تهدف الى الدعوة الفاعلة للمبادئ الأمريكية للحكم في الخارج.
إن نظرية السيادة لا تستطيع العمل بوجود عالم متعدد الأقطاب، عوضاً عن ذلك، أنها تدعم فكرة أن دولة قوية، تملك سلطة لا مثيل لها، يجب أن تعيد تشكيل العالم الحالي بحسب مصالحها. فعن طريق فرض القوانين، فإن القوة السائدة تستطيع أن تحافظ على موقفها المسيطر على العالم. ومن خلال تبني هذه النظرة، فقد قام المحافظون الجدد بإحداث شق في الحزب الجمهوري وأقسام الحكومة، إذ أن العديد من الجمهوريين لا يزالون يعتقدون أن أميركا تستطيع أن تحافظ على منصب القوة العظمى، عن طريق ممارسة سلطتها في عالم متعدد الأقطاب .
هذه بعض أفكار مدرسة ليو شتراوس، والتي تجسد بدقة معظم التفكير لدى المحافظين الجدد . إن بعض هذه الأفكار متجذرة في وجهة النظر التي يتبناها المحافظون عن العالم، من مثل دور الدين في المجتمع أو توسيع السلطة الأمريكية. وبغض النظر، فإن الميزة المعبرة للفلسفة الشتراوسية هي، حتى بمقاييس المحافظين هي فلسفة متطرفة على اقل التقدير.
7-المحافظون الجدد وقضايا الحروب والتسليح
لخص الرمز الكبير في المحافظين الجدد (مايكل لادين) موقف مجموعته من قضايا الحرب والسلام بعبارة مختصرة قال فيها: ( الأمريكيون يعتقدون أن السلام أمر طبيعي..هذا ليس صحيحاً، الحياة ليست هكذا، السلام شيء غير طبيعي ) وأن العنف يجب أن يكون في خدمة الديمقراطية ، لذلك دعا (لادين) الى ما أسماه بالحرب الشاملة ،التي رأى بها الطريقة لبلوغ الأهداف الأمريكية في إحداث تغيير في العالم ، لذلك ، فان التغيير في العراق، وسوريا ، وإيران ، ينبغي أن يتم عن طريق العنف فقط، وهذه الروح الحربية عند المحافظين الجدد، تؤشر التحول في السياسة الأمريكية نحو الاستخدام المباشر للقوة لأحداث التغيير المطلوب، كذلك يصرّ ايرفينغ كريستوفر بأن هنالك مهمة تاريخية وهدف سياسي للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية هو العمل على إنشاء والمحافظة على الحكومات الديمقراطية الحديثة .
8- المحافظون الجدد والموقف من قضايا(الإرهاب)
يعتبر المحافظون الجدد الحرب على ما يسمى (الإرهاب) من القضايا التي تخصهم هدفاً ووسيلة ، فبعد تسعة أيام فقط من إحداث سبتمبر 2001 بعث وليام كريستول، ابن مؤسس تجمع المحافظين الجدد خطاباً الى جورج بوش، جاء فيه: ((لا يكفي تحطيم شبكات الإرهاب في أفغانستان، بل من الضروري إسقاط صدام حسين ، والقصاص من سوريا، وإيران، وحزب الله في لبنان)).
أما الإستراتيجية التي يقترحها (المحافظون الجدد) على الإدارة الأمريكية في حربها ضد (الإرهاب)، فقد حددها (دوغلاس فايث) وكيل وزارة الدفاع الأمريكية للشؤون السياسية، والمنفذ الفاعل في مجموعة المحافظين الجدد، حيث حددها بثلاثة محاور:
المحور الأول: هو تعطيل نشاط (الإرهابيين) ثم تدميرهم مع بنيتهم الأساسية.
المحور الثاني: يتمثل في خوض (معركة أفكار) معهم ، تستهدف تجنيد بعضهم وتحويلهم إلى المبادئ الصحيحة ، واستخدامهم في تلك المعركة التي تعتبر معركة (أيديولوجية) ، يتوجب على أمريكا أن تكسبها أيضاً، لأن الإرهاب ظاهرة سياسية تحركها أيديولوجية، والأيديولوجيات يمكن أن تهزم مثلما هزمت الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق.
المحور الثالث: فيتمثل في عمل المزيد لحماية الأمن القومي الأمريكي الذي أنشت من أجله وزارة جديدة، وهي وزارة الأمن الوطني، كما أنشأت وزارة الدفاع قيادة جديدة يتولى فيها للمرة الأولى قائد عسكري مقاتل، الإشراف الأمني على جميع أراضي الولايات المتحدة القارية، ثم خلص (فايث) إلى القول بأن احد مكونات المحور الثالث من إستراتيجية أمريكا في حربها ضد الإرهاب، هو استخدام الصواريخ الاستراتيجية لمواجهة الإرهاب عندما يقتضي الأمر .

ثالثاً: المحافظون الجدد: المشاريع الاستراتيجية :
يعتمد المحافظون الجدد مجموعة من المشاريع الاستراتيجية التي تهدف الى تحقيق أطروحاتهم الفكرية والسياسية ولعل أبرز تلك المشاريع والتي تم صياغتها في شكل تقرير قدم للإدارة الأمريكية هما مشروع الإمبراطورية ومشروع القرن الأمريكي الجديد.
· مشروع الإمبراطورية.
تكونت هذه المجموعة برئاسة (ريتشار تشيني) وبول ولفتويز، وفايث، وجيمس ووسلي، وارمتاج ، وفرانك كالوتش ودونالد رامسفيلد ، وكانت كوندوليزا رايس سكرتيرة هذه الفريق.
وقد بدأ هذا الفريق ورشة عمله في مركز (جيمس بيكر) لدراسات البترول بتكساس عام 1992، وتوجه أعضاؤه الى بوش الأب الذي أصبح راعي هذه المجموعة مستغلين رغبته في استئناف العمل في مشروع الهيمنة الأمريكية. بعد سنة من العمل في بيت بوش الأب، توصل هذا الفريق الى تقرير نهائي وقع عليه ريتشار تشيني، وأبرز ملامح هذا التقرير ما يلي:
1. الحزب الجمهوري لا بد أن يمسك زمام السلطة من جديد، لأنه الحزب صاحب الرؤية الكاملة للقرن القادم.
2. الرئاسة القادمة - بعد كلنتون - عليها أن تستغل الفرصة التاريخية التي تنفرد فيها أمريكا بموقع القطب الوحيد في العالم لتمكن لمبادئ أمريكا وسطوتها في العالم. ينبغي البناء على ما أنجزه ريغان وبوش الأب (الجمهوريون) لاستكمال بناء الإمبراطورية التي وضعا أساسها.
3. على الإدارة الجمهورية عندما تعود للسلطة أن تمارس دورها في التمكين لمصالح أمريكا بدون قيود من أي جهة في العالم.
4. الولايات المتحدة - تحت حكم الجمهوريين - من واجبها أن تشاور حلفاءها ولكن من حقها أن تخالفهم وتتصرف بمفردها.
5. الحرب ضد الإرهاب هي الدعوة التي يمكن توحيد العالم كله حولها، سواء القوى الكبرى او الصغرى، وتلك هي أقدر الدعوات على حشد العالم خلف أمريكا، لأن كل دولة في العالم يمكن أن تصبح معرضة للإرهاب حقيقة ، والولايات المتحدة من حقها قيادة تلك الحرب من باب الدفاع عن النفس .
6. نزع فتيل الصراعات الإقليمية.
7. منع أعدائنا من تهديدنا.
8. تدشين عهد اقتصادي جديد.
9. توسيع دائرة التنمية.
10. تطوير مؤسسات الأمن القومي الأمريكي.
11. التعاون المؤسسات المركزية (كحلف شمال الأطلسي،والاتحاد الأوربي) .
· مشروع (القرن الأمريكي الجديد) .
تأسس هذا المشروع عام 1997 م تحت رعاية مؤسسة المواطنة، ومولته مؤسسة (برادلي)، وقد ارتبط أيضا بمؤسسة (أمريكا انترابرايز)، وهدفه المعلن هو :((تعزيز القيادة الأمريكية للعالم))، ويترأس المشروع (وليام كريستول) زعيم المحافظين الجدد، والمدير التنفيذي له هو (جاري شميت) المحافظ الجديد المستميت في الاحتفاء بفكر ((ليو شتراوس)).
ولهذا المشروع مبادئ وغايات معلنة ،صدر بشأنها بيان في 3/6/1997، جاء في ديباجته )):لمواجهة السياستين الخارجية والدفاعية التائهتين خلال الغرب المتقدم، تظهر أهمية صياغة الظروف قبل بروز الأزمات، مواجهة الأخطار قبل أن تستفحل ، ولتحقيق ذلك يتطلب ما يلي:
1. زيادة الأنفاق الدفاعي لتحمل مسؤولياتنا حول العالم.
2. تعزيز العلاقات مع الحلفاء الديمقراطيين ، وتحدي الأنظمة المعادية لمصالح أمريكا وقيمها.
3. تعزيز الحرية السياسية والاقتصادية حول العالم بنشر الديمقراطية واقتصاد السوق.
4. فهم الدور الأمريكي المميز، ومسؤوليته تجاه حفظ نظام دولي جديد يفيد أمن أمريكا ورفاهيتها ومبادئها.
5. الدفاع عن الوطن الأمريكي.
6. إحداث ثورة عسكرية في إمكانيات القوات الأمريكية.
وقد وقع 25 شخصية من رموز المحافظين الجدد على هذا المشروع .
وتحول هذا المشروع إلى مركز للأبحاث تحت تسمية (PANC)(مشروع من اجل عصر أمريكي جديد)، يقوم بإعداد الدراسات والمشاريع السياسية والإستراتيجية التي يسترشد بها صناع القرار في الولايات المتحدة ، فمشروع تحرير العراق كان في الأصل مشروع تم أعداده في عام 1998 من قبل مركز (PANC) ليقدم للإدارة الأمريكية لتحوله من ثمة الى سلوك سياسي في الواقع.

المرجع لما سبق
المحافظون الجدد: قراءة في المرجعية الفلسفية والطروحات السياسية
> القسم السياسي
د.باسم علي خريسان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق