الخميس، 5 أبريل 2012

العقل الدوغمائي


علي الربيعي
شكالية التعدد والتـأسيس النظري للتعددية في الفكر الإسلامي
العقل الدوغمائي : بنية لا تاريخية عصية علي الأنكسار

علي حسن الربيعي
يَبدْو من الراهنِ فَتح أفق القول على مسألةِ التأسيسِ المعرفي والتاريخي تجاهُ إشكاليًة التعددية و حضورها على مستوى اٌلسيًاق التَماْثليً للفكرِ الإسلامي، وسياقهِ اللامُـتَماثلِ أيضا. أيً فيما يَتَعَلْقُ بالمكْوًنِ والبنيةِ الفكريةِ ، وبالحقلِ السياسي، والإطارِ الإجتماعي ، ومواقعيـًةِ الحدثِ المُتَوَلًدُ عن تَمفصًلِ علاقاْتِهما لبَلوَرةِ رؤيةِ فكريةِ وممارسةً عمليًة تـنْسَجمُ ومُتطلبات صيًرورةِ المجتمعاتِ في السياقِ الإسلامي حاضراً. أنً ما يعنينا ،هنا، هو إعادةِ التفكيرِ في الأسسِ النَظًريةِ والتاريخية لقضيةِ التعددية في الفكرِ الأسلامي والمجتمعات في السياقِ الإسلامي .
أذا كانت أحاديًة التصوًر ظاهرةً مَكـينةً في الفكرِ الأسلامي فالأولى العوًدة للتعدديةِ كأصلٍ للأشياءِ .فهي مبدأ قائمُ على حقِ الأختلافِ وقبول الآخرِ وهذا لايتحقق الًا بمقدارِ ما يكون هناك حِوارُ وفعلُ تواصليُ ونديًة تُقيمُ المساواةَ في حَقِ الممارسةِ والتعبيرِ بصرفِ النظرِ عن تباينِ الأعتقاداتِ والأنتماءاتِ ، وأن لا يُكَرًس أيً منهما كتعبير عن الحقيقةِ النهائيةِ ، والإعترافُ بالآخرِ وجوداً ومشاركةً ومعرفةً ، بعد أنً سادَ النزعُ الأحادي والأعتقادُ بأنً الأنا هيَ الحق فعلا والآخر باطل حكما ، و تمكنت مفاهيم إمتلاك الحق والصواب من الفرقِ المختلفة في التَجربةِ التاريخيًةِ للأمةِ الأسلاميةِ . 

نقد العقل الدوغمائي 
يقفُ العقلُ الدوغمائي عائقا أبستيمولوجيا و تسويراً أيديولوجيا أمام التعددية الأعترافية ، لذا أحد أهم الشروط لنتأسيس التعددية على الأرضية الفكرية والأجتماعية الأسلامية هي نقد هذا العقل وتفكيك مقولاته . أنه يدلً علي منطقية العقلِ المُوَحٍد وطريقةِ تفكيرِه التي لاتَقْبَلُ التَعَدُدَ والأختلاف، و يَتَصْورُ أمتلاكه الحقيقةِ النهائيةِ دون الغيًر ؛ والـتَبَنيً الصارم لمبادئ أو مطالب أو مذاهب دون أخضاعها للفحص والمحاكمة العقلية - المنطقية ، ويتمظهر هذا العقل في إعتقادِ كل فرقة بتجسيدها للعقيدة القويمة وسبل الهداية . انه يُعَبِرُ عن اليقينيةِ والثباتِ العقائدي الذًي تَرفضُ تركيبته كل تناقض أو أنتقاء . فتُصَنف الكثيرُ من الطوائفِ الدينية المتزمتة سلفيا والحركات السياسيةِ المعبرة عنها أيديولوجيا في السًياق الأسلامي كأتجاهات دوغمائية أذ تَعدُ كل خروج أو رفض لمقولاتها وقناعاتها بالانحراف عن الطريق القويم .
يُلغي العقلُ الدوغمائي كُلِ إمكانيةً لقبولِ واقعِ ومبدأ التعدديةِ لأنه يشَدد علي جوهريةِ الاختلافِ ويرفعهُ الي مُسْتوي اٌلفصلِ القاطع بين اليقينِ المطلقِ والآخرِ اللايقينِ المطلقِ، ولايكْـتِرثُ لايً مُحاجَجَةٍ تَستندُ إلي البراهـينِ العقلـيةِ والحُـجَجِ المنطـقيةِ ، فهو يزدريً كل الوقائع التي تَدحضُ او تناقضُ منظومتها العقائدية - اليقينية ، أنه نَسقٌ تصَوري وتفسيري يُقدم مقولاته كحقائقٍ قارةٍ و يعتبرها تتمتع بالشمولِ والكليةِ طبقاً لمعاييرِ لاترتبطُ بأيً مبدأ عقلي للتثَبت من مدي صدقيًتها. )للتفصيل حول هذه القضية انظر مؤلفات : Milton, Rokeach: The Open and Closed Mind, New York, Basic book 1960; and, Beliefs, Attitudes and values: A theory of Organization and change; and Understanding Human Values) 
العَقلُ الدوغمائي ذو بنيًة لا تاريخيًة عصيًة علي الأنكسارِ ، ويميلُ الي الثباتِ والوحدةِ لأنه بعيدٌ عن تحولات التجربةِ والوقائعِ التاريخيةِ ؛ يحتكمُ دائما الي سلطةِ النموذجِ / الأصلِ فَيشتَغِلُ وفقا لآليًة المقايسة . لا يَعترفُ العقل الدوغمائي بتعددية التيارات الفكرية ، وبالمقدار نفسه، لايتقبل تعايش هذه التيارات داخل نطاق اجتماعي - تاريخي واحد . لذا سادَ حديثُ "الفرقة الناجيًة"، ومقالات الأسلاميين في "فيًصلِ التفرقة"، "وتلبيس إبليس" في سيًاقِ التجربةِ التاريخيةِ للأمةِ الأسلاميةِ .
وعليه فـَمن الأهميةِ الراهنةِ اٌلتي تَحملُ مُسَوًغاتِها معرفياً واجتماعياً إعادة التفكير في نظامِ الفكرِ الأسلامي القروسطي الممتد حتي الوقتِ الحاضر " "Episteme ِ، لكشفِ تاريخيًته وتاريخيًة العقل المنتج له. و كذلك تـفكيك "Deconstruction" بنيًة العلاقات الناظـمة لمكوناتِ هذا العقلِ، والتعريًة الأركيولوجية لـلصفة النسبيًة للمفاهيمِ التي يَستعملُها ومحدوديتها المعرفية ، وبالتالي إرتباط هذا الكل بسياقاته التاريخية وأطره السياسية والإجتماعية وفضاءه الفكري متمثلا في طبيعةِ القضايا والأسئلة التي كانَ يواجهها . فتفكيك نصوص الفكر الإسلامي مسألة حيوًية لإعادةِ فهمها وتلقيها، ومهمة لتجاوز مقولاتها وموضوعاتها . ومن هذا الموقع تظهر مَـدي أهمية الإستعمال المُنجز المنهجًي المُعاصر، و تبرز ،أيضاً، راهنيًة أشتغال إستراتيجية للنقدِ لاتُختَزل في منطقِ المقايسةِ أو الأستبدالِ أيً الي مجرد عمليًة إبدال بين نماذج جاهزة تـُنزًل علي نظامِ ثابت للخطابِ والمعني ؛ فمنطقِ الأستبدالِ لاينتجُ معرفةً حيث تُختَصر مهمتهِ علي التكرارِ والتحويرِ في تَركيبِ الأفكارِ علي بَعْضُها من خلالِ النقلِ والأستعارةِ . بقدر ما تكون وظيفة هذه الأستراتيجية هي البحثُ عن ممكناتِ أخضاعِ تلكَ النصوصِ للتفكيكِ Deconstruction)) مما يَسمَحُ باجتراحِ مساحات جديدة للتفكيرِ.
لقد مارسَ الفكرُ الإسلامي عمليًة نقديًة واسعة كانً لها إنجازات مهمة في تنهيجِ الجدلِ والمناظرةِ شَمَلت مُختَلف الحِقولِ. لكن تَبقي العملية النقدية كما جَرَت في هذا الفكر مَشروطةَ بمفهوم ِ النقدِ الواقعِ تحتَ مَظـَلة النظام المعرفي والفضاء الفكري القروسطي الذي كان يتحدد كثيراً بمنهجيًة الأســـتدلال والقياس ، والمقارنـة، والـرد، والحـد، كوسائـل يستعملها العقـل للوصول لأحاديًة الحقيقة وبلوغ اليقين ، وكذلك بمقولات التهفيت،والتكـفير ،والحكم المسبق ( prejudice )، و تعميمها ، والمروق عن الصراط المستقيم . لكن هذاْ لا يُلغي إمكانيًة إستلهام دلالات التراث النقدي الإسلامي في سياقِ مَشروع نقدي له مُكَوًناتهِ الذاتية ويستثمرُ ،في الوقت نفسه، ما أجترحتهُ العمليًة النقديًة المعاصرة التي تنظر الي اٌلنقدِ كَمَشروعٍ غير منجزِ باستمرارِ. مشروعُ يقومُـ بخلخلةِ أنظمةِ الفكرِ وزحزحةِ الدلالةِ وكشف نِسَابيًة Genealogy"" المَعْني ، وتاريخيًة تَشَكًلُ الخطابِ، بقصدِ إفتتاحِ إمكانات جديدةً للتفكير غيرُ مُفـَكر فيها من قبلِ (unthinking able )؛ وإعادة فهم النصً وعلاقاته ، المسألة التي تَقودُ مباشرةً الي الإلتفاتِ الي آليًاتِ التفسير وقضايا التأويل ، والتي تَفتِحُ بِدَورها مَسألةَ حق إختلاف التأويل بل "صراع التأويلات" حول النصً المقدس و التُراثِ، لكن السؤال في راهنيتهِ يتعلقُ بالكيًفِ المُـمكن لتأويـل هذا التراث من موقعِ يكون فيه قادرا علي النهوض بوظائف جديدة داخل سياق الأجتماع/ السياسي الأسلامي حاضرا .
يَقومُ التأسيسُ للتعدديةِ في الفكرِ الأسلامي علي إستراتيجية مفهومية مُتـَعددة الرؤوس تَبدأ من السؤالِ ، ماذا يعني التفكير في الإسلامِ اليوم الذي يَبدو سؤالاً مركباً في بنيته وعلاقاته. انه ينطوي علي أستفهام عن ماذا يعني التفكير اليوم ؛ التفكير المتمثل للمنجز المعرفي المعاصر والمستحضر لأدواته المنهجية والذي يتمشي علي قارة واسعة في إتجاهه القصدي المرتبط بالشق الأول من السؤال ماذا يعني الإسلام اليوم؟ فكأن "الإسلام" يتأول باستمرارِ ويـَمر باوضاع تَمعينيًة دائماً في مسارِ التجربةِ التاريخيةِ للأمةِ الأسلاميةِ طبقا لأثرِ المتلقين وإختلاف مراحلهم التاريخية واوضاعهم الأجتماعية ، مما يدفع الي أهمية الإعتراف بتاريخية ونسبية النتاج الفكري للعقل الإسلامي. فلا يتعين منظور "الإسلام " اليوم من خلال التمسك بمقولات اللاهوت وإتجاهاته الكبري، ولا حتي الأحكام الفقهية وأصولها القائمة علي آليات النظام المعرفي القروسطي ؛ وكذلك عموم المقولات الأخري المحكومة بحدودها التاريخية ومنها التعددية. أذن تحتاج مسألة التعددية الي أستراتيجية أخري جديدة علي العقلِ الأسلامي لا تقفُ عند المستوي النظري في تَسويغِ تعددية مَناهج فهم النصوص الشَرعيًة أو تلك الناتجة عن أختلافِ الزمانِ والمكانِ بل تتجاوزها الي نقلِ التعدديةِ المبنية علي التأسيسِ العقلي الخالص الي المستوي السوسيولوجي في تقدير المصالح وخارج متبنيات " ملاك الحكم " التي يَرجعُ تحديدها الي الشرعِ لتشملِ الأطر الأجتماعية التي تقع خارج النطاق الأسلامي وتختلف مع من يرون أنهم يحملون التفسيرَ الأسلامي الصحيحَ في الرؤيًةِ والتقدير . 

التعددية والتأويل
تَسـهمُ العمليًة التأويلية في تقوًيضِ إمبرياليةِ المعني واحتكارِ الحقيقةِ ، إنها تخليص للفكر من سلطة التفسير الواحدي والمطابقة التامة بين اللفظ والمعني، فهيً سبيل إنفتاح العقل وتوسيع حدود الفهم، وتجبرنا علي الإعتراف بالنسبية وإننا محكومين بالصيرورة التاريخية.
قدمً المسلمون مباحثَ كثيرة في تعريفِ التأويلِ وممارستهُ ؛ والمراد بهِ نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي الي ما يحتاجِ الي دليلِ لولاه ما تُركَ ظاهر اللفظ . وكأن ممارسة التأويل تتعلق بفهمِ المعني وضبط التفسيرِ عند حدود الألفاظ ،و في علاقته الوشيجة بالمجاز التي هي "عبارة عن إحتمال يعضده دليل يصير به علي أغلب الظن المعني الذي يدلً علية الظاهر. ويشبه أن يكون كل تأويل صرفاً للفظ عن الحقيقة الي المجاز" ؛ لكن إختلاط التأويل بطريقةِ معينة في الفهمِ وبنمط في التفسيرِ، وهذا مرتبط بفهم معني المعني في ما قبل أنجازات اللسانيات المعاصرة المتمثل هنا في الزحزحة الدلالية بين الدال والمدلول ، ثبت التصور للمعني في الفضاء المعرفي الإسلامي بوصفه واحدا قارا، ميتافيزيقيا، جوهرانيا ، سواء في ظاهر النص بيانيًا او في باطنه عرفانيًا . وهذا مايكشف عن الوحدةِ العميقة للنظامِ المعرفي الذي أٌنتِيجَ طبقا له التراث الأسلامي علي المستوي الأبستيمولوجي رغم التعدد علي المستوي المذهبي والسياسي . لذا من الأهمية تجديد مناهج التأويل بأستيعاب وظيفة مُنجَزاتِها المعاصرة ، سيًما وإن هناك أسهامات كثيرة في الإنفتاح الدائم علي تضاعيف الخطاب وطيًات المعني ومناهج تفسير النص المقدس . 
تُسًوغ بنية النص المقدس بوصفه نقطة البدء الدائمة للفكر الإسلامي حقانيًة تعدد التأويلات واختلاف مناهج التفسير ؛ و يمهد للقول بأنً التأويل فاعلية إجتهادية بشرية، وهذه نقطة مهمة علي طريق تأسيس أرضية للتعددية بوصفها الأصل وما الوحدة الا نتاج للإجماع والفعل التواصلي . فمن المقدًماتِ الأوليًةِ للتعددية التي شهدها المجتمعُ الإسلامي هي تعدد الإجتهادات ، ورغم أن التتطور لم يُصيب منهجية هذه الأجتهادات أذ ظلت محكومة بآليًة الأستبدال التي وأن استلمت فكرا جديدا تديره علي محوًر قديم مما أدي بالنتيجة الي تمتين العـقل الدوغمائي وتمكينه من الأستمرارِ ،ومع ذلك يفتح هذا المستوي الأولي من الأجتهاد علي التعدد في الأطار الشرعي مما يسوغ للتعددية في الرؤية والمنهج أبتداء، أي حق أختلاف التاويل. أنه يؤسس لمشروعية الأختلاف والتعدد في أستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وعليه اذا كان الأختلاف و التعدد مباحا في مسائل الفقه و قواعد الشريعة فمن الأولي ان يكون كذلك في مسائل الأجتماع السياسي بوصفها ساحة للإختلاف الآراء وتعدد المواقف .ولا تقتصر التعددية علي طرائق فهم النص الشرعي بل تشمل فيما يختص في تقدير المصالح المرسلة ومقاصد الشريعة وما يقع خارج هذا الأطار أيضا .انها تمثل اسلوبا في ادارة الأختلاف القائم علي الأعتراف المتبادل بين الجماعات المختلفة .

التعددية في السياق الاسلامي 
وقعت التعددية في السيًاق الأسلامي فعـلاً،وهي تَفصحُ عن نفسها بصيغة الفرق ،و المذاهب الفقهية كمنظومات من المباديء والأعتقادات ؛ وكآراء ومتنوعة، بتنوع المجتمعات الأسلامية واختلاف المصالح التي تفرق بينهما . فأعتُبِر التعدد واقع، و الأختلاف رحمة و حقُ شرعيُ. والكل راد و مردود عليه. النص المقدس وحده حامل العلم الألهي الثابت. أما قراءته وتأويلاته فهي متعددة بأختلاف مدارس التفسير، ومصالح المجتمعات. فالأصل في الأشياء التعددية ، والوحدة هدف للمستقبل وأمكانية تتحقق ، وأفتراضٌ ضمني يـٌمَكنُ من الحوارِ بين الأتجاهاتِ المتعددةِ والآراءِ المتباينةِ. وبِفَضلُ التعددية الأولي حتي القرنِ الرابع الهجري نشأت مدارس الحضارة الأسلامية وازدهرت. وقد عبر عن هذا الشافعي حين قال " أنه علي صواب قد يحتمل الخطأ وأن الآخر علي خطأ قد يحتمل الصواب". 
و هذا ما أستدعي القراءات المتعددة للنصِ المقدسِ بوصفهِ ذو بنيًة تَحْتَملُ أوجها مُختَلفةً لتأويلهِ وفهمِ مقاصده . فليس مسألة فهم النص المقدس ، بوصفه ذو بنية مجازية و رمزانية عاليًة ؛ و طريقة التقييد بحدوده وانطباقية أحكامه علي الوقائع التاريخية - الأجتماعية مسألة بسيطة وتتم بشكل تلقائي أنها بحاجة مستمرة الي الأجتهاد للتكييف والملائمة وفي إعادة التفسير والمطابقة . ثم ان قبوله تعددية الفهم والتأويل لا تضفي عليه من الخارج بقدر ماهي متاصلة في بنيًته علي المستوي المنطقي الي حد كبير ، لكنها ليست كذلك علي المستوي التاريخي ، فرغم ما حصل من تعدد المذاهب والملل تبقي التعددية كما جَرَتَ علي الأرضيةِ التاريخيةِ في السياقِ الأسلامي وتَشخصتَ وفقا لمحدداتِ الأطرِ السياسيةِ والإجتماعيةِ ضعيفةً وقاصرةً نظريا ًإذا ما قُورنت بمفهوم ِ التعددية في الفكرِ المعاصرِ، وأدي هذا الي أنسداد الأفق السياسي للفكر الأسلامي لاحقا ؛ لأنها قامتَ بالأساسِ علي المفاهيمِ الأرثوذوكسية لمسًلماتِ العقليًةِ الدوغمائيًةِ ، أي إنها كانت تعددية أرثوذكسية . فثمة بنية مشتركة لمتبنيات المذاهب الأسلامية في أصول فقه أحكام الشريعة حيث اليقينية المطلقة هي قاسمها المشترك رغم صورية الأحتمال . 
يقوم منطق التعددية علي قبولِ المفاهيمِ المختلفةِ المُعَـبر عنها فعليا بالأرادات المتنافسة أجتماعيا . فتُمَثلُ التعدديةُ اسلوبا في ادارة الأختلاف يتجاوز التعايش ليرتقي الي مستوي الأعتراف الكامل والمتبادل بين الجماعات بديلا عن الانكار والأستبعاد . وقد حصل هذا بدرجات متفاوته في التجربة الأسلامية ومصداق ذلك ما مثله مفهوم أهلُ الذمةِ الذي منح به المشرع الإسلامي حقوقاً لغيًر المسلمين في ظلِ الدولة الإسلامية ،وكان تنصيصا متقدما علي حقوق من غير أهل الملًة في زمانه ، لكنه - طبعا - يعتبر الآن مفهوما له حدوده التاريخية تجاه مفهوم المواطنة. فالتعددية منطق عقلي ونهج في الممارسة لايقبل اختزال الحقيقة في مذهب أو إحتكارها في فرقة .
التعددية: الأسلام والديمقراطية
تًنزلُ التعددية من الفكر السياسي المعاصر و النظام الديمقراطي منزلة الأساس الذي يقام عليه الهيكل .( حول النقاش الراهن بخصوص التعددية أنظر 1- Maria, Baghramian & Attracta Ingram , ( ed)Pluralism (the philosophy and politics of diversity Routlege,2000 . 2- Galston , William: Liberal Pluralism , Cambridge university press,2002. 3- Connolly, William: Pluralism, duke university, USA, 2005)) . فعندما يدورُ النقاشُ عن رهاناتٍ التعدديةِ ومدي حضورها في السيًاق الأسلامي يَطرحُ مفهوم "الأسلام والديمقراطية" في محاولةِ لاقامةِ مقاربةِ بينهما بدون الألتفات الي انً هكذا مقاربة فيما يمكن أن تَكون عليهِ العلاقة تعميماً بين "الإسلام" والديمقراطية، تبدو مقاربة لا تتقوم بهذه الصورة ولا تستقيم بهذا المعني. إنها تتعاطي مع الطرفين بطريقة أيديولوجية ناشئة عن عقلية مانوية في الفصل والضم. أي وفقا لمنطق ثنائي القيمة ؛ فـتضعهما كقطبين متوازيين لـتُعيدِ ترسيمهما كنسقين متقابلين. وهكذا إستقطاب يفتقد الإتساق علي مستوي التحليل المنطقي والدلالي- لاختلاف المدلول بينهما- ومبررات ما يتأسس عليه معرفيا و سياسيا . إنه ينطوي علي رؤية ماهويًة مُتًضَمِنة لتصورِ جوهراني لا تاريخي "للإسلام" في خط موازِ للديمقراطيةِ . وبالتالي فما ينتج عن هذا التَصوًر المطروحِ بصيغةِ السؤالِ عن كيـًفية التوفيق والموائمة يبدو سؤالاَ تـلفيقيًاً بالأساسِ، يضعُ الديمقراطيةِ كمقولة ايديولوجية ثابتةٍ او صيغة جاهزة برسمِ التطبيق، ويَنظرُ اليها بطريقةِ نشورية خلاصية.
الديمقراطية في مفهومها وممارساتها الحاليًة صفة لنظام الحكم ولنمط من التنظيم الأجتماعي، إنها نتاج الفكر السياسي للحداثة . ينظر اليها في الغرب بأعتبارها مُشَكلة من منظومة متكاملة ومتضافرة تقوم علي الليبرالية (liberalism) حتي أن الكلام عن ديمقراطية مضادة لليبرالية هو بحد ذاته كلام متناقض يتم عن نظام سلطوي أكثر بكثير مما ينم عن نمط مخصوص من أنماط الديمقراطية وعلي رؤية علمانية (secularism) للعالم ، ونظرية في العقـد الأجتماعي - السياسي تَفصلُ بينَ المجتمعِ المدني والمجتمعِ السياسي والدولةِ بوصفِه شرطا مركزيأ من شروط الديمقراطية. 
لكن هناك بعض الأراء تعتقد بإمكانية التلاقي بين " الإسلام" والديمقراطية . يري محمد مهدي شمس الدين بالأمكان اختيار الشوري كفلسفة حكم والديمقراطية كآليات ومؤسسات. فالديمقراطية اخت الشوري الأسلأميةورديفتها وجنسها ، انها افضل وسيلة قدمها العصر لتطبيق الشوري علي حد تعبير عبد السلام ياسين. فالشوري التي تَضَمنتْ معنيً أخلاقياً ولم تحمل في التاريخ السياسي للمجتمع الإسلامي دوراً إجرائياً معيناً يُحدد طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، يمكن لها الآن - كما يري راشد الغنوشي - أنً تحمل المدلول المعاصر للديمقراطية ، فلا ضيًر في الألفاظِ ويمكن للشوري أن تقوم بدور الديمقراطية نفسه ، بوصف الديمقراطية جملة من الآليًات يمكن لها أنً تعمل بنجاح علي أكثر من أرضية أيديولوجية. فمثلما تشتغل في إطار العلمانيًة الغربيًة يمكن لها أن تَشتغل في إطار "الإسلام" ، أيضا،الذي يقدر علي ذلك بنجاح تام لإنعدام وجود كنيسة تحتكر تفسير النصوص. [أعتبار النصوص الإسلامية تتمتع بالإنفتاح مما يجعل الديمقراطية تعمل بنجاح أكبر. وان الإجماع المتحقق عن طريق "الترجيح بالكثرة" -كما يقول الإمام الغزالي- يمكن أن يكون أحد آليات الديمقراطية في الأجتماع السياسي الإسلامي. فالديمقراطية في إطار الدولة القومية لا تكون إلا محدودة وحصرية لتحقيقها مصالح فئة معينة من الناس بينما الخلفية الإنسانية والأخلاقية للإسلام تجعلها تعمل بنجاح أكثر بوصف الإسلام رسالة كونية . 
وهناك رأي آخر يَقول، بأن للمجتمع ألأسلامي في سياقه التاريخي، والفكر الإسلامي في مكوناته الذاتية "ميكانزماتة" الداخلية ، و قراءته طبقاً لها يجعله في غير ذي حاجة لإستيراد المناهج والمفاهيم الغربية؛ فما هي الا مناهج ومفاهيم نسبية تعبر عن التجربة التاريخية للمجتمعات الغربية و مظاهر أنتظامها السياسي. 
يَنطـلقُ الموقفان من أستراتيجيتين مختلفتين في المقاربة . الاول، يمثل السياسي الذي يهمه كثيراً ما يدخلُ في الحلِ العملي. والثاني، تعبيرأ عن إستراتيجيةِ المؤرخِ الذي يرومَ "قراءةً من الداخلِ للسياق التاريخي ـ الاجتماعي ـ السياسي الإسلامي .
يتعلق الموقف الأول بإستعارة المفاهيم "المضمونية" ؛ ولكن لا تستفد المسألة بوصفها مسألة ألفاظ، بل يبدو الأمر أكثر تركيباً وتعقيداً ، فهذه الألفاظ مفاهيم إصطلاحية تحملُ وبدرجاتٍ متفاوتةٍ أبعاداً لمدلولات تُعَبرُ عن حالِ أو وضعِ المعرفة في أفقها السوسيولوجي ؛ وكذلك النظام المعرفي "الأبستمي" الذي نشأت واشتَغلت فيه، وأيضاً، تَتعلقُ بطبيعةِ العلاقةِ الجدليًة بين العام والخاص، والأختراق الأيديولوجي للمعرفي. فلاينشأ المفهوم منفردا ليتم نقله بسهولة الي سياق آخر، بل يندرج ضمن شبكة من المفاهيم المتضافرة - المشروطة بعلاقاتها البنيوية الخاصة قد يفقد فاعليًته خارجها ؛ ومن هنا ليًس من الميسور انتزاع هكذا مفاهيم من تلك العلاقات ، ومن سياقاتها التاريخيًة والمعرفيًة و ادماجها في سياقات اخري مغايرة . الأمر الذي يكشف عن كون فاعليًة المفاهيم تبقي فاعليًة مشروطة . المسألة،اذن، تتعلق بطريقة نقل المفاهيم من تربة معرفية معينة ومدي إمكانية أشتغالها علي تربة أخري .

حمولات علمانية
أما القول بالاكتفاء في دراسةِ المجتمعِ الإسلامي من داخلهِ وفق مسوًغ أن الفكرالإسلامي يمتلك من الأفكارِ والمفاهيمِ ومحمولاتها ما يستوفي لإمكانية هكَذا قراءة، حيث له مناهجه وآليًاته الخاصة في ما يتعلق بقضايا المجتمع والدولة ، وأمر الولاية والمشروعية ، وشكل الحكم والسلطة، تكون كافية لإنتاج نظريًة في الأجتماعِ السياسي يختًص بها الفكر السلامي ،وبالتالي لا حاجة لإستعارة المفاهيم عموما، ومن فكر الغربي تخصيصا ؛بأعتبار مفاهـيـمه ذات حمولات علمانية، قد ينتـج عنها في المطـاف الأخير ما يُطًـلق عليًه تصوًر ماكس فيبر للعلمنة، أي سيتمُ تغليب القيًم الدنيوية مقابل إنحسار قيم العالم الاخر فيتعلًمن المجتمع والسياسة ، وهذا ما حصل مع المسيحية . لكن هذا يَبدو موقفا راديكاليا ًومنظورا حصرياً يَبحثُ عن إصالةٍ طهورية وخصوصية نقيًة من الآخرِ ؛ إنه موقف لا يؤديً في نهايةِ المطافِ الا الي أيديولوجية محافظة ومنغلفة تتواطأ معرفياً مع الإتجاهِ الآخرِ المحافظِ في الغربِ. فيري المستشرقُ الفرنسي روجيه أرنالديز أن كلَ ما يَمكنُ إستخراجهِ من "القرآن" يمكنُ الوصولَ اليًه بواسطِة المناهجِ التي إستعملها المفسرون المسلمون سابقاً،ويضرب مثلاً بإبن حزم الأندلسي، وبالتالي لا حاجةَ للباحثِ المسلمِ من إستخدامِ مناهجَ العلوم الإنسانية الغربية فما عند المسلمين يكفيهم. فيشير إلي أن العلماء المسلمين كانوا استطاعوا بمفاهيمهم "تحريك النصوص القرآنية وإنعاشها بتفاسيرهم" إلي درجة "يصعب علينا اليوم حتي باسم العلوم الإنسانية أن نجد فيها شيئاً آخر جديداً غير الذي وجدوه"! وبالتالي فإن "المسلمين المحدثين الذين يستعيرون المناهج الغربية كان أحري بهم أن يكتفوا بمناهج أسلافهم من القدماء، فهي توصلهم بالدقة نفسها. لأن يستخلصوا من الآيات القرآنية ما توصلهم إليه هذه المناهج التابعة للعلوم الإنسانية " .
تَحتاجُ المسالة الي ماهو ابعد من هاتين الإستراتيجيتين، و من تلك المُحاجَجات حول ما اذا كانت الديمقراطية تُمَثلُ بنيًة فكرية أم تُختزل الي مجموعةِ آلياتِ لتداولِ السلطةِ وضبطِ النظامِ السياسي و أختزال التعددية في التعدد الحزبي و استنفاد التفكير في المقارنة بينها وبين الشوري ؛ والدوران حول فكرة الحاكم دون مراجعة لفلسفة الدولة، فيما يتعلق بنطاق سلطتها،و دور الأمة فيها ، وأشكال التأثير المُتَبادل بينهما. والخلاصة يبدو من الراهنية الشروع في نقدِ الحاجة الي التعددية في ما يدخل ضمن إستراتيجية التفكير في الإسلام اليوم الذي يعني إعادة التفكير في مفهوم التعددية المتأسس منهجياً علي مفاهيم معاصرة للإجتهاد والنقد والتأويل علي مستوي الأسس الأبستيمولوجية للفكر الأسلامي وكذلك علي مستوي الأجتماع / السياسي للمجتمعات في السياق الأسلامي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق